قانون جريشام وتطبيقاته- من الاقتصاد إلى الإدارة والتنمية

المؤلف: يوسف بن طراد السعدون11.10.2025
قانون جريشام وتطبيقاته- من الاقتصاد إلى الإدارة والتنمية

لقد استعرض أحمد بن علي المقريزي، العلامة الموسوعي الذي عاش في الفترة ما بين عامي 1365 و 1441 للميلاد، في مؤلفاته القيمة مثل "إغاثة الأمة بكشف الغمة" و"شذور العقود في ذكر النقود" و"السلوك"، معضلة الصعوبات الاقتصادية التي كانت تعصف بمصر في تلك الحقبة الزمنية. وأشار بتبصّر إلى العلاقة الوطيدة بين الأسعار السائدة وأنواع العملات المتداولة، مؤكدًا أن تداول العملات الزائفة والمغشوشة المصنوعة من معادن زهيدة كالنحاس والحديد، سيؤدي حتمًا إلى إزاحة العملات الأصيلة ذات القيمة العالية المصكوكة من معادن نفيسة كالذهب والفضة من ساحة التعاملات التجارية، وهو ما سيقود في نهاية المطاف إلى تفاقم معاناة المجتمع نتيجة لندرة أو حتى انعدام المعروض من العملات الجيدة وارتفاع جنوني في الأسعار.

ما طرحه المقريزي من أفكار عميقة، تحوّل لاحقًا إلى قانون اقتصادي راسخ، عُرف بـ "قانون جريشام"، نسبةً إلى السير توماس جريشام، المستشار المالي المحنك للملكة الإنجليزية في القرن السادس عشر، والذي شدد بدوره على أن العملات الرديئة قادرة على إقصاء العملات الجيدة وإبعادها عن التداول بين الناس.

وإذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة أن أي شيء متدنٍّ أو رخيص القيمة لن يكون له أي اعتبار أو شأن يُذكر في ظل وجود نظيره الجيد أو الأصيل، فمن المنطقي والطبيعي ألا ننتظر من هذا الرديء، إذا ما أُعطي المجال وأُتيحت له الفرصة، أن يسمح للجيد بالظهور أو أن يمنحه فرصة للنمو والازدهار، بل سيقوم بإقصائه وتهميشه واستقطاب كل ما هو مماثل له من رداءة ودناءة، وذلك لضمان استمراره وبقائه. وبالمثل والقياس، يمكننا بسهولة تطبيق مفهوم هذا القانون الاقتصادي على مختلف جوانب ومناحي الحياة المتنوعة، سواء كانت محلية أو دولية، سياسية أو إدارية، ثقافية أو اجتماعية، إعلامية أو رياضية، وغيرها الكثير من المجالات الأخرى.

وهذا الأمر تحديدًا هو ما دفع سبيرو أغنيو، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، إلى التعبير عن استيائه من قطاع الإعلام الأمريكي، قائلًا بمرارة إن الأخبار السيئة فيه تطرد الأخبار الجيدة. كما أن عالم الاجتماع البريطاني البارز غريغوري باتيسون، افترض بدوره أن لهذا القانون تطبيقات اجتماعية جمّة، إذ أن الآراء السطحية والتافهة تنتشر دائمًا بين الناس على حساب الأفكار المتعمقة.

وبالنظر إلى هذا المنوال، يمكننا أن نلمس تجليات واضحة لتطبيقات هذا القانون في مجال الإدارة في بعض الدول النامية، وذلك إذا ما أمعنا النظر مليًا في واقع القوى البشرية والقيادات الإدارية في المؤسسات العامة أو الخاصة فيها. ففي كثير من الحالات، نجد أن المناصب القيادية العليا تُمنح لكوادر وطنية ذات توجهات متطرفة، تفتقر إلى الشعور بالانتماء والنزاهة، ولا تمتلك القدر الكافي من الإدراك والخبرة أو المؤهلات الضرورية. وفي هذه الحالة، تكون هذه الكوادر سببًا رئيسيًا في طرد الكوادر الجيدة والكفاءات المتميزة وإحلال أخرى مماثلة لها من حيث الرداءة والضعف. وقد قدم أستاذ الاقتصاد العراقي الدكتور محمد طاقة تطبيقًا جليًا لهذه الحالات، في مقاله القيّم "قانون جريشام العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق" المنشور عام ٢٠٢١. حيث أشار إلى أنه "عندما غزت أمريكا العراق واحتلته ودمرته، جلبت معها أردأ عملة على وجه الأرض، وسلمتهم زمام إدارة الأمور. وهذه العملة الرديئة، قامت بطرد أغلى ما موجود لدى العراق من عملات، وهم العلماء والأساتذة الجامعيون والأطباء والمهندسون والضباط والمثقفون، وأردوهم بين قتيل وسجين ومشرد ومهجّر". هذا الوضع المأساوي لا يقتصر فقط على العراق، بل شهدته مناطق ودول عديدة أخرى مثل أفغانستان وإيران واليمن وسوريا ولبنان وغيرها من الدول النامية في قارتي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وينطبق القانون ذاته في حالة إسناد الوظائف القيادية الإشرافية والتنفيذية والاستشارية إلى الكوادر الأجنبية، نتيجة للانجرار وراء الفكرة الخاطئة بأن الكوادر الوطنية أقل كفاءة وفعالية من الكوادر الأجنبية، وهي ما يمكن تسميتها بـ "عقدة الأجنبي"، وذلك بسبب الرغبة العارمة في استنساخ المسيرة التنموية الغربية. فعدم إدراك القيادات والمستشارين الأجانب لتراث وقيم المجتمع وتطلعاته الحقيقية، وسعيها الدؤوب لتعظيم مكاسبها وخدمة بعضها البعض لتحقيق أجندات خفية، سيؤدي حتمًا إلى تعطيل قدرات الكوادر الوطنية الجيدة وطردها نتيجة للتهميش والإقصاء وعدم إتاحة الفرصة لها لاكتساب خبرات قيادية متعمقة. وهذا يعد تهديدًا صارخًا لبرامج التوطين والتنمية المستدامة في الدول النامية وتدميرًا لمستقبلها، ويحرم مؤسساتها من استثمار خبراتها التراكمية المكتسبة والبناء عليها من أجل التطور والتقدم. كما أن القرارات والمشورات التي تقترحها تلك الكوادر الأجنبية لن تكون على الإطلاق بنفس مستوى جودة ما يستطيع أن تقدمه الكوادر الوطنية المدركة لكافة أبعاد هموم وتطلعات المجتمع.

واستنادًا إلى كل ما سبق ذكره، يتوجب على كافة الدول النامية أن تكون على أهبة الاستعداد واليقظة التامة وهي تسعى لبناء برامجها التنموية، وذلك من خلال صياغتها لتصبح تطورًا ذاتيًا وطنيًا بالكامل، وفقًا لمقوماتها وإمكاناتها الخاصة. والأهم من ذلك، يجب عليها أن تتعلم كيف تسير أولاً، قبل أن تقدم على الركض. ومن الأهمية بمكان، أن تتأمل مقولة الكاتب الأمريكي الشهير جون شتاينبك، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، في روايته "عناقيد الغضب" عن الكساد العظيم: "لا تحلق بآمالك مع طيور السماء، ولا تزحف بها مع ديدان الأرض".

خاتمة: من روائع أقوال الشاعر عبدالله المسعودي الهذلي:

يا قاضياً حكمته من تحت كوعه

من لا يعرف الصقور ايتشواها

كم اكلت النار من صقر شيهاني

والريم ترعى ورى الضلع من غادي

يا خيال وابروق وارعود مسموعه

لكنّ ما يشرب الطير من ماها

ما فالسنة حب خوخٍ ورمّاني

والحال ما يسمن إلا من الزادي

مجنون ليلى سقى الضلع بدموعه

عشرين ليلة وليلة ما يلقاها

البطن جيعان والطرف سهراني

والراس مرشوش بالورد والكادي

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة